الدكتور نزار السامرائي العائد من ارض الموت أسئلة الحرب وبرهان الأمل قراءة أولية . د. عبد الستار الراوي

 الدكتور نزار السامرائي

العائد من ارض الموت 

أسئلة الحرب وبرهان الأمل 

قراءة أولية .

---------------------------------------------------

د. عبد الستار الراوي 








(1)


نزار السامرائي العائد من الموت، هو الذي رأى، رأى ضفة الكون الأخرى، طوى من عمره عشرين عاما مصلوبا على جدران ولاية الفقيه.. مقيما في جحيم الآيات العظام؛ متنقلا بالقوة القاهرة بين قصور اللاهوت المنيعة من زنزانة لأخرى ومن سجن لسجن، وعلى مدى الايام والليالي وتوالي الشهور وتراكم السنين؛ أمضى الأسير العراقي عقدين من عمره على حافة العدم؛ ما بين سياط الجلادين وعنجهية الطغاة، قد تعجز المتون والأسفار التقاط مرئيات التعذيب وتفاصيل الانتهاكات المروعة التي واجهت الاسرى على درب الآلام، لكن السامرائي بعقله اليقظ وقوة إرادته لم يدع جزئية تسقط من ذاكرته أو تفلت من دفتر يومياته.. وبرغم المشاق المستحيلة احتفظ المقاتل الاسير بأبجدية التجربة من الألف إلى الياء، مزودا بيقين الوطن المؤكد، بأن يستعيد العراق برهان الأمل.. 


 (2)


في كتابه (في قصور آيات الله)، يدون الدكتور نزار السامرائي نصا دراميا ينفتح على حرائق الروح، ومكابدات العقل، تحت وطأة تجربة الردى العاجل والموت المرتقب. 

  إن حال الأسرى العراقيين داخل الاقفاص الإيرانية أشد مضاضة على النفس من ويلات الحرب؛ فسقوط السلاح من يد المقاتل، والوقوع في الأسر قد تفوق معاناته الإنسانية وجع الموت في ميدان القتال.  

مذكرات الجراح الغائرة، جعلتني أستعيد وصية الاسير العراقي التي أخفاها بين ثنايا غلاف (المصحف الكريم) لإيصالها إلى أهله وذويه، كتبها أسير عراقي وهو يودع الحياة.. جراء التعذيب.. وكانت تلك آخر كلماته.. 

 بسم الله الرحمن الرحيم، أودع وصيتي في كتاب الله العزيز.. الشاهد الخالد في كل زمان ومكان.. بأني ما فرطت قط في ولائي للعراق ولا في إيماني بأمتي العربية.. ومن أجلهما، تحملت ما تحملت من ضروب الآلام وصنوف التعذيب، ما تئن من وطأته الجبال.. كنت وما أزال والموت توأمان..  الموت كان رفيقي منذ لحظة الاسر عام 1983 وحتى الساعة الاخيرة التي أدون فيها هذه الوصية اليوم العاشر من شهر حزيران عام 2001.. أشك أن الذين حققوا معي وتوالوا على تعذيب مسلمون، أو أن أحدا منهم قرأ سورة من القرآن أو أقام صلاة..  الحقد الدفين على العراق والعرب يجري في عروقهم مجرى الدم، يسخرون من رموزنا الإسلامية الجليلة، ويجاهرون في كراهيتهم للامة التي أنجبت محمدا وعليا والحسين عليهم السلام.. فالخميني هو الدين كله.. وما دونه باطل.. لقد رأيت ولمست وسمعت من السلوك والافاعيل والافتراءات ما يشيب له الولدان.. أشهد أن لا إله إلا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله؛ عليها أحيا ومن أجلها أموت.. حفظ الله العراق وأهله.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. محمد.. مدينة الحرية الثانية دار..) 


(3)


يفتتح الدكتور نزار السامرائي النص؛ بجملة من الأسئلة الملتاعة، 

 هل كان بالإمكان تجنب حرب الثماني سنوات والركون إلى حل يرضي الطرفين؟

ومن هو القادر على أنْ يفعل ذلك؟ وكيف يستطيع إنجاز مثل هذه المهمة؟

وهل كان بالإمكان تجنب المآسي الإنسانية والمادية التي رافقتها ونجمت عنها؟ ثم أضافت إلى المجتمع العراقي كما المجتمع الإيراني، أمراضا وعقدا هي الإفراز الطبيعي لأية حرب، خاصة إذا كانت بحجم حرب الثماني سنوات والنيران التي أشعلتها، والتي أتت على كل شيء مرت عليه أو بقربه، ودمرت ركائز اقتصادية كانت قائمة، أو مشاريع في طريقها أنْ تصبح شواهد في كلا البلدين، وعطلت برامج التنمية فيهما على حد سواء.

قد تكون هذه الأسئلة كما يقول الكاتب؛ من قبيل ما يصعب إعطاء جواب بنعم أو لا، ما لم تتم متابعة  ظروف العلاقة المعقدة بين بلدين لم يختر أيّا منهما جيرة أزلية وأبدية من حيث الزمان، وتصل إلى 1200 كيلومتر في حدود مشتركة، لم يشهد طرفاها في علاقاتهما الثنائية استقرارا إلا لفترات قصيرة، ثم لتعود إلى نقطة التوتر وبدرجة أشد مما سبق، رغم وجود أسباب جدية وجوهرية تقضي بتطبيع العلاقات والوشائج، التي يمكن تلمّسها بسهولة، وبإمكانها ربط أواصر وطيدة ينبغي أنْ تسود بين أي بلدين متجاورين، على أساس المصلحة المشتركة والمنافع المتبادلة واحترام خيار كل منهما وعدم التدخل في الشأن الداخلي.


(4)


كان السامرائي أثناء لحظة الأسر الأولى قد اصيب جراء الهجوم الايراني، لكنه أمام مسؤولية الـ(نحن) حاول أن يتناسى الالم المبرح؛ متفوقا على (ذاته) تمكن من إنقاذ جريح  عراقي كان معلقا بين الموت والحياة، وكان بأمس الحاجة ليد تزحزحه عن خط التلاشي وتقربه من الأمل، ( استجمعت كل ما أحمله من بقايا قوة، لإنقاذ الجريح، دون أنْ أعرف اسمه أو المدينة التي ينتمي إليها، توكلت على ألله، وأنا أكبر الأسرى عمرا في هذه المجموعة، وأنا الوحيد بينهم كنت جريحا، ولإحساس بوحدة الجرح، كان يجب أنْ أضرب لهم مثلا في التآزر والتعاضد في الظروف العصيبة، ولحسن حظي في هذا المقطع، فقد كان الجريح نحيفا جدا، حملته بعد أنْ ساعدني النقيب طالب مناجد، ولقد حاول أنْ يحمله بدلا عني، وطلب من الحرس الإيراني ذلك، ولكنّ الأخير أصر على أنْ أحمله أنا فقط،  كان الحمل يزداد ثقلا مع مرور الوقت واستمرار المسير،  وبعد حوالي أربع ساعات، بين صعود ونزول في أخاديد المشداخ، وبين جلوس وسير، لاحت بارقة أمل بلحظة الفرج الآني، فالمرء يعيش أحيانا محنة تنسيه ما هو أصغر منها، بل أحيانا لشدة وطأتها، تمنع مجرد التفكير بما هو أكبر منها، خاصة إذا كان ضغطها المباشر لم يبدأ بعد، من بين كل المعالم والشواخص، برزت أمامي خرقة بيضاء تحمل هلالا باللون الأحمر، مرفوعة على سارية ملتوية فوق خيمة رثة، يا لها من لحظة عظيمة، إنّها بشارة خير لمن أوشك أنْ يتهاوى فتحامل على جرحه وجرح من يحمل على ظهره، بل هي ساعة عرس للمحمول أكثر منها لي لأنّه سيجد قليلا من الضماد أو المسكنات، حينما أصل سأنتصر على بدني وطاقتي المحدودة، وبقدر أكبر سأنتصر على العسكري الإيراني ومن خلفه مؤسسته، حينما تعمد إيذائي بمهمة سأبقى أعتز بأنّني أنجزتها، وحينما أصل إلى الخيمة، سأضع جنديا عراقيا وأتركه هناك، كنت أعرف أنّ الألم سينتهي في لحظة ما، ولكنّ السعادة بما فعلت ستبقى خالدة معي، وصلنا الخيمة متهالكين تماما، بل ربما كنت في آخر ما اختزنته من طاقة، وتحادث الجنود الإيرانيون مع بعضهم، وبلغة الإشارات فهمت أنّ مهمتي انتهت عند الخيمة، جاء بعض الجنود وساعدوني بوضع المصاب على الأرض، ثم ضمدوا لي جرحي، وهناك تركت الجريح العراقي، تمهيدا لنقله إلى المستشفى وعيناه ترنو نحوي بالشكر دون أنْ يتمكن من التحدث معي بعد ذلك، واصلنا مسيرتنا تحت حراسة مشددة، وحين وصلنا إلى أحد المقرات الخلفية للجيش الإيراني، تم توزيع بعض كسرات من خبز يابس، وشيئا من الجبن. 


(5)


بعد انقضاء عشرين عاما من الموت المؤجل عانى  فيها  السامرائي صنوفا من التجارب القاسية  في زنازين آيات الله، بعد كل هذه السنوات يكثف الاسير المناضل تجربة العذاب المهين  بحكمة بالغة  ، فقد استحالت يوميات  قلاع الموت الحصينة  إلى ( جامعة الحياة) ، ثقافة من طراز فريد ؛ رصيدها الخبرات العميقة والتجارب المفتوحة التي تتسع لكافة أشكال التناقضات في الامزجة والنفوس  وفي التصورات والتصديقات ؛ لم يكن اكتشاف الواقع أمرا ميسرا أو النزول  إلى حقائق الواقع متاحا قبل تجربة الاسر والتطويق والحصار، جامعة تلتئم فيها مرئيات وخبايا لا حصر لها ، يتعذر تلقي معارفها وفنونها في الاكاديميات  النظرية أو حتى التطبيقية  ، تلك  هي جامعة الحياة الواقعية، فالتجربة غنية وفيها أهمّ الشهادات التي يمكن أنْ يحصل عليها الإنسان، الجميع طلبة والجميع أساتذة، والحاذق النابه من يستطيع أنْ يكونهما معا، كي يتزود بالمعرفة التي لم تسعفه حياته السابقة للحصول عليها، وينقل ما يريد مما اختزنه للآخرين، وخاصة بعد أنْ تعطلت سبل المعرفة فالكتاب أي كتاب ممنوع من الوصول إلينا، ولذا كانت الخبرات تنتقل وتكتسب من الخزين الذاتي للأسرى، وليس كل من يمتلك معرفة في أحد حقولها، قادرا على نقلها، أو راغبا في ذلك، بالمقابل ليس كل من يريد الحصول على المعرفة، قادرا على اكتسابها  فالقدرات الشخصية في الأخذ والعطاء، متفاوتة وبدرجات تبدو مذهلة أحيانا..

(6)

وإذا كانت  المعركة الحربية قد انتهت بالنسبة للأسير من لحظة سقوط البندقية من  يده، فإنّ تحديات معركة مقاومة بربرية ولاية الفقيه وقهر وحشة الزنازين أصبحت جبهة  سياسية، تتطلب مهارات خاصة في إدارة صفحاتها، حماية للأسرى، بالتعاضد المتبادل، وليس بالوصاية المفروضة من بعض الرتب الأعلى التي قد لا يصمد حامليها، مما قد يجر وراءه آثارا سيئة على مجتمع الأسرى، يستغله بعض أصحاب النوايا والأغراض المقصودة، وهنا برزت قضية دور التنظيم الحزبي في مجتمعات الأسرى، والتي ركّزت على مقولة إنّ الضباط الذين أخفقوا  في إدارة المعركة الحربية في ميادينها، فإنّ تسليم القيادة لهم بمعركة من طراز جديد، يعد تفريطا بمصير الأسرى، ولم تخل هذه الدعوة كسابقتها قضية القدم العسكري، من نزعات لا صلة لها بالموقف الوطني والمبدئي، وتنطبق عليها احتمالات سقوط الكبار من القادة الحزبيين، وما يجره من توظيف لإسقاط الآخرين، التنظيم الحزبي كان يريد انتزاع دور المسؤولية من القدم العسكري، في وسط لا قيمة فيه لأي قدم، ولكنْ هناك رغبات في إذكاء صراعات جعلت الأسرى يدفعون ثمنها باهظا.

هذه الأوضاع كانت كفيلة بتفجير المشكلات بين الأسرى لأتفه الأسباب، وهذا هو مجتمع السجون عموما، ومجتمع الأسرى بشكل خاص، وأخذت الإصطفافات الخاطئة تبرز للعيان، ومن بين هذه الإصطفافات، الانتماءات الطائفية والعرقية والعشائرية والمناطقية، وكذلك الانتماء لصنوف الجيش أو الدورات في الكلية العسكرية، وظل الجوع والقمل والتعذيب في هذا المعسكر، هموما مشتركة لأسرى فرقتهم المشارب المختلفة.


(7)


مفهوم الصداقة بنضارته المشرقة عرف لأول مرة في تاريخ الكوكب الارضي بوادي الرافدين، وإن من أول معاني الالفة الحميمة  هو (الإيثار) مذ اقتحم  جلجامش وإنكيدو سويا غابة الموت وأجهزا على الوحش  خمبابا  كانت تلك رسالة الملحمة الخالدة إلى  العراقيين حاملة إلى  الاجيال المتعاقبة إلزاما أخلاقيا مفعما بدفء الصحبة ومسؤولية الدفاع عن الصديق ومؤازرته  والتضحية من أجله ؛ في مواجهة غائلة الموت، وما أورثته نصوص الملحمة من  معان الفداء، وماهية الاحزان حين يفقد الانسان رفيقه وعلمنا الملك السومري أن الصداقة فوق كل الاعتبارات الطبقية والعرقية والمناطقية  فأنكيدو لم يكن سوى رجلا بدويا منشغل في رعاية الاغنام، وعلمنا ملك سومر وأكد درسا بليغا (متى يليق البكاء بالرجال) .. وان أجمل ما في الصداقة هي المروءة البيضاء وأخص معانيها؛ الشيمة والنخوة والسخاء النفسي، وهي واحدة من حقائق المجتمع العراقي. ففي ظروف المحنة كما يقول الكاتب تنشأ صداقات صميمية وأصيلة، كان الأقرب إلي في تلك الظروف، الملازم الأول عامر الدليمي، هو ضابط احتياط ولكنّه متطوع إلى ألوية المهمات الخاصة، ومن هنا نشأت علاقة رفقة لم تعكرها ظروف الأسر القاهرة التي هزت علاقات الأخ مع أخيه، والأب مع ابنه، كان عامر مثالا للشهامة والمروءة والشجاعة، وامتدت الرفقة معه حتى يوم الأسر الأخير، إذ عدنا إلى العراق معا، هناك ضابط آخر هو الملازم ثائر عدنان الراوي، كان يتأجج  وطنية وحبا للعراق وللرئيس صدام حسين، كان رياضيا نشيطا وشجاعا بلا حدود، ولكنّ هذا البطل الوطني رحل في مرحلة لاحقة، في آخر معسكر تم نقلنا إليه قبل أن نعود للوطن، أصيب بجلطة قلبية، ولأنّنا كنّا في معسكر خاص بالأسرى المعاقبين، فقد كانت الخدمات الطبية متناسبة مع هذا الوصف، فالقتل يتم معنا دون إطلاق للنار، وخاصة أنّنا كنا في الوقت الضائع من مرحلة الأسر، كان معنا ضابط أخر جمعتنا نحن الأربعة رفقة الأسر الطويلة، هو الملازم الأول حبيب حسن حبيب السامرائي، الذي أصيب هو أيضا بجلطة قلبية، ولكنّه أفلت منها، وعاد إلى العراق قبل الغزو الأمريكي عام 2003 بيومين).

ويحدثنا الدكتور السامرائي عن عذوبة سجايا رفاقه الأسرى، الألفة الدافئة وتلقائية التعاون والمؤازرة في الشدائد، لأنّ حياة ضاغطة بهذا المستوى، لا يمكن أنْ تُعاش، إلا بتنازل الجميع لبعضهم البعض، عن جزء من الخصوصيات، وأحيانا كلها أمام إرادة التعايش المتقارب من حيث الضغوط، ولهذا لم يكن مسموحا لأسرانا أنْ يحتكموا لغير لغة الإخاء، رغم أنّ هناك تفاوتا بين ما يحمله البعض من مدارك وقدرات ذهنية وبين ما يحمله البعض الآخر. فالملابس والهدايا مثلا كانت صورة من صور التكافل الحميم في تلك البقاع البعيدة أو في عالم العزلة المترامية. 


(8)


لم يجد أحد وصفا مقارباً يليق بإحتفاليات تعذيب الاسرى لا في لاهوتيات التفتيش في العصور الوسطى ولا في أبي غريب الامريكي، ولافي أدبيات المعري ودانتي أيما مسافة قريبة بين ماورد في تاريخ وأسفار ومرويات الامم وبين معاناة الاسرى العراقيين كما هو مرقوم وموثق في زيارة السامرائي   لقصور آيات الله لم تكن الانتهاكات تقليدية ولم  تقتصر على التعذيب والتجويع والمحاصرة والإيذاء المهين، بل كان سعي الجلادين  دوما البحث عن تقنيات مبتكرة لسحق البناء النفسي وتدميره، والاصرار الايراني  العنيد ، على تخريب الذاكرة الوطنية ، ليس ثمة لون آخر في كتاب ولاية الفقيه سوى لون اللاهوت الارهابي الذي استبق جورج بوش في مقولته التلمودية وهم يرددون (إما أن تكون موالٍ لنا فتكون ولياً حميما أو تصبح عدوا رجيما)  هكذا كان مصنع غسيل المخ  الايراني لتبييض العقول وانتزاع  وطنية الاسرى  بالوعد والوعيد، وهكذا تناوب الجنود الايرانيون تحويل الاسرى إلى أكياس للتدريب على الملاكمة، والكاراتيه، وأثناء ذلك، كان الجنود يسحبون، أحدنا ويلقون به على السرير وعلى بطنه، ويأتي أحد الجنود المفتولي العضلات، ويبدأ الجلد بـ(الكابل) بلا رحمة أو إنسانية، كان تسلسل السامرائي في طابور تلك الليلة يحمل الرقم (ثالثا) في مهرجان الألم، وكما فعل في قصر فيروزة، كان يردد مع كل ضربة ـ الله أكبرـ  بصوت مسموع عن قرب، ومن بعيد كان صوت أذان الظهر يصل إلينا، وتداخلت تكبيرات المعذَبين مع مقطع (حيّ على خير العمل)، وكان الجلد متواصلا، وبعد أنْ أحصيت خمسا وعشرين جلدة نزعت مني لحما كثيرا، حسبتها أطول فترة حوار بين السوط وظهر رجل، وجاء من بعدي دور الرائد الركن أحمد شكر شاهين، والذي تعرض لقسوة لا مثيل لها قبل قليل، وتعرّض لشبه إغماء، ولما انتهوا منه لم يتمكن من الحركة، فجاء به الجنود، وأوقفوه إلى جانبي، فأمسكت به خشية عليه من أنْ يتعرض لجولة جديدة فيما لو سقط أرضا، واستمرت هذه الفعالية، إلى آخر واحد منّا، وكان السوط لا يكف عن الارتفاع والهبوط حتى اختلط الدم بالدم.

ولم يشبع نهم الجلاد من منظر الدم المتدفق بغزارة من الأجساد المتعبة، بل واصل مهرجان تنفيسه عن حقد دفين، فأمر بدفعنا كقطار، عربة تسحب الأخرى، ولكنْ في عملية فيها من نذالة الفعل ما يبقى مستيقظا في ذاكرة تستنهض حقدا مضادا، إذ أمرنّا معاوني أنْ نقف طابورا ويمسك كل واحد بإذن الذي أمامه، ولأنّ الأخير لا يمسك بإذنه أحد، فقد تولى جندي إيراني ضربه بنعل مطاطي على رأسه طيلة المسيرة من الفِناء إلى الزنزانة المخصصة لنا، كنا في آخر رصيد من قدرة الحركة، وكان الأسرى الآخرون ينظرون إلى ما يحصل لنا بغضب وألم ومرارة، يمكن قراءتها من الوجوه الشاحبة والأبدان التي أرهقها هزال، نتج من عدم التعرض للشمس، وجوع حوّل الأسرى إلى هياكل عظمية. نعم رغم ما كنّا نعانيه من شعور بالضيم والقهر، من هذه الممارسات الوحشية، التي ترافقت مع أذان الظهر، وفي إيران التي تطرح نفسها بلدا يريد بعث القيم الإسلامية إلى الحياة، وإذ يتكرر (حيّ على خير العمل بعد حي على الفلاح)، كنّا نؤمن بأنّ ذلك طالما يأتي من عدو، فإنّه لا ينال من كرامتنا، ثم أنّه يعكس حقيقة ما يحصل في جبهات الحرب، كان الأسرى القدامى مشفقين على قادتهم من هذه المعاملة المستلة من أساليب أكثر الأقوام تخلفا ووحشية. 

إن أي أنّ الأسير الواحد لا تتاح له فرصة قضاء حاجته، إلا مرة واحدة كل ثلاثين ساعة، ولمدة لا تزيد على دقيقة واحدة، كان وضع الصفيحة أشبه بالمسرحية، إذ أنّ الحراس أبلغونا بأنّ آمر المعسكر لا يعرف بأمرها، ولو عرف لمنعها، ولذلك فإنّهم يجازفون وعلى مسؤوليتهم الخاصة بإبقائها، وعلى ذلك فإنّ علينا تفريغها قبل التفتيش الصباحي، وإذا غضب جندي علينا لأي سبب أو دون سبب، فإنّ هذه الصفيحة تختفي، عقوبة لنا، وهذا ما كان يدفع الكثيرين منّا إلى الامتناع عن شرب الماء احترازا للنتائج، وهذا فاقم من وضع مرضى المجاري البولية، وأصاب الأصحاء بهذه الأمراض، أمّا قضاء الحاجة، فقد كان مأساة كاملة لنا، لأنّ التوقيتات المخصصة للضباط محددة ولا يمكن تجاوزها، فرض الكثير من الأسرى على أنفسهم تحديد كمية الطعام الذي يتناولونه علاجا لهذه المعضلة، رغم قلة كمية الطعام أصلا.

آمر المعسكر يأتي كل صباح، ويتنقل بين الأسرى كالطاووس، ولكنّه كان يتحول إلى كائن ضعيف أقرب إلى الفأر منه إلى الإنسان، حينما يزور المعسكر معمم من المعممين ومهما كانت رتبته، كان يصدر أوامره أمام الجميع، (اجلبوا اليوم مائتي حصة من الطعام)، ويرتفع الرقم وينخفض تبعا لمزاجه الخاص، وجدنا في مقر إقامتنا الجديد، أنّ القمل والجوع والرطوبة والبرد، قواسم مشتركة يتساوى فيها الجميع، ولكنّنا بدأنا نحصل على فرصة حمام عام، في حمام الفرقة 77، في كل أسبوع مرة واحدة، وفضلا عما يمنحه الحمام من راحة بدنية ونفسية للإنسان، فإنّه في ظرفنا كان له أهمية أكبر في إبعاد القمل عن أجسادنا يوما واحدا، إضافة إلى توفر مراحيض كثيرة في الحمام العام، ومن الطريف في مكاننا الجديد أنّ صلاة الفجر أصبحت مفروضة علينا، المهم يأتي الجندي الإيراني ويراقب الالتزام بتأدية هذه الفريضة، وعندما قلنا بأنّ هذه الصلاة باطلة لأنّها تؤدى دون وضوء، قال لنا الجنود غير مهم، لأنّ هذه أوامر من أجل إيقاظكم مبكرا، ولم يقتصر الأمر على صلاة الفجر، بل كان واجبا علينا تأدية صلاة الظهر دون وضوء أيضا، وكان علينا الاستماع إلى محاضرة ساذجة يأتي أحد المعممين المبتدئين، وليشرّق بنا ويغرّب دون بوصلة في بحار الاختلافات الفقهية بين المذاهب الإسلامية، مما لم تحسمه صراعات يزيد عمرها على 1400 سنة، وكلما تواصل البحث فيها حتى من قبل أكثر العلماء فقها وورعا وتقى كانت هوتها تزداد اتساعا.


(9)


يكشف السامرائي عن حقيقة مؤلمة هي غياب المراقبة الدولية، فطوال عشرين سنة لم يقترب الصليب الاحمر الدولي من الاسرى ولم يقف على احوالهم في عالم الاسر الايراني؟!!!! 

نعم لمجيء بعثة الصليب الأحمر الدولي، والتي لم تصل إلينا أبدا، حتى اليوم الذي تفاجئنا برؤية فريق من البعثة، يستقبلنا عند نقطة (قصر شيرين) الحدودية خلال عملية التبادل التي عدّنا فيها إلى الوطن بعد عشرين عاما من الأسر. 

(10)

رغم كل ما كابده الاسير المناضل من مآسي الاسر وضروب التعذيب الجسدي والإيذاء النفسي، فإن السامرائي كان في يومياته باحثا علميا مدققا، وإنسانا نبيلا في مقاصده ومراميه، حرص أن يكون منذ السطور الاولى حتى خاتمة الفصل الاخير، حرص أن يكون دقيقا في وصف المرئيات، منصفا في نقل الأحداث، وشاهد عدل، يحاول بموضوعية صارمة أن يضع القارئ أمام الحقيقة بما لها وعليها، فكان مفارقا لهواه، نائيا بنفسه عن الانحياز الذاتي والموقف الشخصي.  

مما يزيد من قيمة وأهمية النص كونه وثيقة إنسانية من وثائق التاريخ السياسي والقانون الدولي الإنساني ، عدا كونها عملا إبداعيا راقيا ، فقد عبر الباحث عن التزامه الأخلاقي بلغة توثيقية رصينة، راعى في فصول الكتاب الاثنا عشر شروط البحث العلمي، زمانا ومكانا،  ملتزما بالسرد الامين للوقائع، حريصا على تحليل التفاصيل الصغيرة، واردة كانت أم شاردة شاردة، فهو لم ينشئ النص على آرائك مكتب وثير، ولا كتب عن معاناة الاسر قراءة أو سماعا، او عبر منقولات الاحاديث والشائعات، بل دون أوراقه من داخل النص ومن وجع الجرح وبجدران الزنزانة، وبآلام رفاقه الاسرى، وبالتعذيب الذي  تعرض له جسديا ونفسيا طوال توالي  الايام والشهور والفصول والسنين.

آثر إتباع منهجية الواقعية النقدية في تصحيح الكثير من المفاهيم؛ وفي مراجعة وتدقيق العديد من القضايا المتعلقة بسجل الحرب، بدء بالمقدمات وختاما بنتائجها.. وقد عرض من وجهة نظره التحليلية النقدية لدواعي الخلاف وأسباب الصدام العنيف بين طرفي النزاع؛ فلم يشأ إلقاء الكلام على عواهنه أو أن يصدر حكما مسبقا، أو يستبق العلل والدواعي؛ ولم يتردد في توجيه النقد اللاذع إلى الإعلام العراقي بل ذهب أحيانا إلى كشف نواحي الخلل والقصور في الاستحضارات العسكرية العراقية تجاه خطط الهجوم الإيرانية. وفي أخطاء الدولة في متابعة ومعالجة ملف أسراها، لاسيما بعد إيقاف إطلاق النار بين البلدين.    

موضوعية المنهج تنصرف أيضا إلى كشف خبايا عالم الاسر بصفحاته المختلفة الذي يكتظ بكثير من المسائل الشائكة؛ ابتداء من غسيل الادمغة مرورا بظاهرة التوابين، وبالدور الوضيع الذي قام به مجلس الحكيم في تعذيب الأسرى العراقيين.

  المؤلف هو وحده وبحواسه الخمس وبعقله الفصيح كتب ما رأى وما عاشه وعايشه، وهو الذي عانى، وهو الذي اقتيد الى حفلات التحقيق الوحشية التي تضيق العبارات في وصف وقائعها الوحشية، من ضروب الإيذاء النفسي والجسدي، وفي فن تدمير آدمية الكائن البشري، فالجلادون كانوا أمامه وعلى أيديهم عذب وأهين، لكنهم فشلوا في النيل من إرادته.


(11)


الكاتب لا يقدم لنا صورة انطباعية عن الاشياء والوقائع إنه يحمل القارئ إلى قلب الحدث، والى عين اليقين، بحيث يشعر القارئ أحيانا، وكأنه جزء من اللحظة النفسية التي عاشها أو جربها الأسير العراقي.

نزار السامرائي الذي شغل منصبا رفيعا في الاعلام وصاحب الخبرة الطويلة في المهنة الاتصالية، لم يكتب مذكراته بطريقة التحقيقات الصحفية رغم أهمية هذا اللون من الكتابة، ولا حاول أن يقدم لقرائه مشهدا تعبويا مباشرا، بل صمم بثبات أن يدون شيئا حقيقيا للتاريخ، وثيقة بالغة الأهمية عن السنوات المديدة التي قد تنأى بها الايام لكنها لن تنسى ولن تسقط من ذاكرة العراق، لأنها كانت كما دورة الحياة، من الصعب المرور عليها، أو اختزال أيامها، أو تجاوز أحزانها.    

السامرائي وهو الخبير بالإعلام وبخطورة الأدوات الاتصالية يدرك قبل غيره مسؤولية الكلمة ومعنى الحدث وقيود الالتزام بالواقعة. ومن هنا فإنه أهدى كتابه إلى رفاقه الشهداء، الذين ارتحلوا دون وداع الأهل والأحبة، أولئك الذين أزهقت أرواحهم في جحيم الأسر، بعد أن أغرقهم الجند الايرانيون بالدم والرصاص فمضوا في طريق الأبدية، صفوفا صفوفا، الشهداء الغرباء، الجنود المجهولون مضوا بصمت، لم تبكهم النائحات، ولم يعرف لهم ضريح.

 

(12)


من بين الفلسفيات الواردة في النص، مسألة الافراط والتفريط، على نحو يترجمه الاشتباك العنيد بين الواقعية الصلبة والمثالية المتعالية، يتحدث نزار السامرائي عن القاعدة الذهبية الأرسطية القائلة بـ(الحد الاوسط) قائلا، ( إنّ افتراض الكمال في ما يحصل في جبهات الحرب، افتراض يفتقد إلى الواقعية، لأنّه لا يستند على أساس، لا بد من وجود حل وسط بين الحسن المستحيل، والقبيح المرفوض، وحينما أقول إنّ هذه الصورة لم تكن حاضرة بنفس درجة وضوحها في الحوارات الداخلية مع النفس والآخرين، خلال مرحلة الأسر في المعسكرات الإيرانية، فإنّ عندي من شواهدها الخاصة ما يدعم تصوري لمثالية ما في اندفاع الرجال إلى جبهات القتال أو فيها، وهنا تحضرني قصة إصابة أخي جمال، وكان جنديا في أحد أفواج اللواء العشرين أثناء معركة قوية مع الإيرانيين في قاطع البصرة وكانت إصابته بالغة، وقد منح على أثرها إجازة مرضية وإكرامية مالية مناسبة، حضر إلى منزلي في بغداد، بطريق عودته إلى سامراء، وحينما انتهت إجازته، أخذه صديق لي إلى مستشفى الرشيد العسكري وتم تمديد الإجازة، ولمّا تكررت الحالة للمرة الثالثة، انتفضت بوجهه، وطلبت منه قطع إجازته على الفور والالتحاق بفوجه في الجبهة، فما كان منه إلا أنّ يخفي غضبا وراء ابتسامة غامضة، وقال يا أخي هذا هو حال الجميع، لا أحد يفرط بإجازة تأتيه إلى عتبة داره). 

ثمة واقعة أخرى يرويها  السامرائي قد تكون أبعد مدى في النظرة المثالية المفرطة إلى مسار الجهد المبذول لإسناد جبهات الحرب بالمقاتلين، والقضية ترتبط بي شخصيا، فحينما تطوعت لألوية المهمات الخاصة، كنت أصلا منخرطا في قواطع الجيش الشعبي، المعدة لإرسالها إلى المناطق الأكثر حاجة إلى جهدها، ولم أدفع بأي عذر مما أمتلك من الأعذار المشروعة التي تعفيني من أي واجب من هذا القبيل، لقد عزمت على الأمر، واتخذت استحضاراته حتى النهاية، وفي تلك الفترة أيضا كنت أشغل منصب مدير عام دائرة الإعلام الداخلي، وكنت قد استكملت إجراءات السفر، رئيسا لوفد العراق إلى مؤتمر اليونسكو الدولي الذي كان مقررا أنْ يُعقد في عاصمة المكسيك، ومن هناك كنت سألتحق بالوفد العراقي، لاجتماعات اللجنة العراقية الموريتانية المشتركة، للتعاون الاقتصادي والفني والتي يرأس جانبها العراقي السيد محمد فضل الحبوبي وزير الأشغال والإسكان حينذاك وكنت عضوا أصيلا فيها، والتي كانت ستعقد في العاصمة الموريتانية نواكشوط، ووصل الأمر بالاستعدادات، أنّ أخي مأمون وسكرتيري الخاص داود الزبيدي، استخرجا جواز السفر وتأشيرات الدخول (فيزا) في الدول التي أحتاج المرور فيها وصولا إلى مكسيكو سيتي، كما قاما بتحويل المبالغ اللازمة لي لهذه السفرة، إلى مؤتمر مهم وبلد يغري كثيرا بدوافع السفر، ولكنّني وفي لحظة الاختيار الحاسم، ذهبت إلى وزير الثقافة والإعلام، السيد لطيف نصيف جاسم الدليمي، واعتذرت عن السفر مع رسالة موثقة بهذا الخصوص، لأنّ الواجب الوطني والقومي، يدعوني لأنْ أكون في مكان آخر، وليس في المكسيك أو موريتانيا.

كانت المرارة تملأ الحلق، ولكنّ المعركة وبصرف النظر عما يقع فيها، فهي معركة مصير يتحدد فيها وجه العراق العربي، فأما أنْ يكون هكذا أو لا يكون أبدا، هكذا كان السامرائي يتأمل متدبرا، لكنه بقي متمسكا بالمرتكزات الوطنية والمبدئية لحتمية وقوف العراقيين، ومعهم العرب، في خندق واحد بمواجهة النوايا الشريرة لإيران، ليس ضد العراق فقط وإنما ضد الوطن العربي، وصفحته الأولى الخليج العربي، وهكذا افترض موقف الجميع، حتى من يختلف مع حزب البعث العربي الاشتراكي، أو لا ينظر بارتياح للرئيس صدام حسين. 


(13)


اللحظة الفاصلة بين الكرامة وضياعها لعشرين عاما، كان ذلك في 24/3/1982، ففي ذلك الضحى الدامي والأسود، كنّا نتقدم برتلٍ الواحد وراء الأخر، كان عددنا في تلك البقعة حوالي أربعين شخصا، بين صبي لا يتجاوز عمره الرابعة عشرة من العمر، وبين شيخ تعدى عمره الستين، كان الجنود الإيرانيون، أو حرس الثورة يتكلمون بلا انقطاع، وكنّا كلما تقدمنا إلى المجهول التحق بنا آخرون من سيئي الحظ والمنكودين، وفجأة علا الصياح من الحراس الإيرانيين، ثم انطلقت رشقة رصاص من بندقية آلية من نوع ج3، سقط ضابط عراقي مضرجا بدمه وفارق الحياة على الفور، دون أنْ يبكيه أحد، لأنّ الجميع هو مشروع لميتة مماثلة، كان الرجل نسي في أجواء اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت، نزع مسدسه من حزامه، ولأنّه كان ضابطا، وحينما كان يتحرك رافعا يديه، كما هو حال الجميع، عاجله أحد الحراس الإيرانيين بزخةٍ من رصاص بندقيته الآلية. 


(14)


تمتمت بالشهادتين وتساوت عندي كل الاحتمالات، وتوكلت على الله، وتقدمت يسبقني قليلون ويعقبني كثيرون، ولكنّ اللحظة التي نقلتني من عز الحياة، إلى ذلها، مرت كما أراد الله لها، وتداعت في مخيلتي صور السفر الملغى، بدأ الألم في يدي اليسرى ترتفع حدته مع الوقت، ولكنّ ألم الظرف الناشئ كان يتصارع في داخلي مع ألم كفي، أحسست وكأنّ مسيرة الضياع قد بدأت، حينها بدأت أسترجع شريط حياتي، وهذا شأن كل من يقع في مصيبة تزلزل كيانه، وخاصة في المراحل الحرجة وهي الدقائق والساعات والأيام الأولى، أول ما ينتاب من هو بوضعي، هو شريط الماضي بحلوه ومره يمر سريعا، وتتداخل فيه الصور، في بعضها ألم لما حصل، وهذا شأن كل من يمر بمحنة كهذه وأية محنة، ترى كيف ستتلقى والدتي النبأ، وهل تطيق ذلك؟

والدتي التي فقدت ألكثير من أولادها، مثنى، ونافع، وعبد الودود، ثم عليّا ابن الثانية عشرة من العمر، فهل سيلتحق نزار بقائمة من رحل؟ 

لا بدّ أنّها تساءلت مع نفسها أو بصوت عال مع نشيج مرير، ولابد أنّها ستسأل عما إذا كان سيعود؟ ومتى يعود؟  أما أبي هذا الشيخ الصبور، الذي يأبى عليه إيمانه أنْ يظهر حزنه، كيف سيغالب مشاعره لحظة سماعه النبأ؟  

وهو الذي قدم للحرب أربعة من أبنائه ما زالوا يقاتلون بلا ملل، ومن ظنه أبعدهم عن أهوالها، إذا به أول ضحاياها، من بين الأبناء، وما هو وقع الحادث على زوجتي؟ وقد تركتها وحيدة في الدار، كانت أسئلتي كثيرة وعميقة، بعمق الصدمة وحجم الدهشة، أحقا أنا أسير؟ وإلى أين أسير؟ أم أنا في حلم مرعب؟ أمدّ يدي لأتلمس الجرح، فيتلاشى ألمه مع ألم رحلة العذاب التي لم يدر بخلد أكثرنا تشاؤما أنّها ستطول إلى الزمن الذي بلغته، لم يذق منّا طعم النوم منذ أكثر من أربع وعشرين ساعة، وما نمته قبل ذلك كان يختلط بِدَويْ القنابل.


 (15)


كان ذلك في الثامن عشر من كانون الثاني / يناير 2002، وبدأت عمليات تدوين الأسماء على قوائم رسمية، يستدعى كل أسير وحسب الحروف الهجائية لتثبيت اسمه الكامل، ويتم تبليغه بالتعليمات الصارمة التي عليه التقيد بها، وإلا سيفقد فرصته حتى لو أعيد من الحدود، نعم هكذا كانوا يحذروننا، ولم نكن في أي يوم من أيام الأسر التي بلغت سبعة آلاف ومائتين وخمسة وأربعين يوما.

غادرنا مشهد صباح يوم 20 / 1 / 2002،  كان كل متر نقطعه الآن على الطريق يقربنا مترا من العراق، كانت الثلوج ما تزال تتساقط، والطريق كان محفوفا بمخاطر جمة، كانت وجهتنا الحدود الشرقية للعراق، ونقطة المنذرية بالذات ولكنْ من نقطة خسروي الإيرانية وعبر قصر شيرين، آخر قصور آيات الله، ولذا كان علينا أنْ نصل محافظة كرمنشاه مساء يوم 22/1/2002، هذه المحافظة تم تبديل اسمها إلى باختران، ولكنّها استعادت اسمها القديم من دون إعطاء سبب للتغيير أو إعادة الاسم القديم، وسارت القافلة محفوفة بأدعية الأسرى المتلهفين للوصول قبل أنْ يغير الإيرانيون موقفهم . 


(16)


عاد نزار من رحلة الموت، وفي قلبه برهان الأمل؛ فحينما اقترب من الحدود العراقية بالحافلات الإيرانية، وشاهد عن بعد حشود العراقيين على ضفتي الطريق جاءوا لاستقبال العائدين من أرض الموت، هنا وفي هذه اللحظة الغارقة بالحنين إلى الوطن؛ يقول السامرائي (تزاحمت الأفكار في الرؤوس، كم تعددت الصور أمام العين، ولكنّ الحقيقة كانت أكبر من كل خيال، وأجمل من كل الأحلام، حينما سلمني الجندي الإيراني للجندي العراقي، توقفت عن الحركة من دون إرادة مني، وهاج بحر الأسرى وماج غضبهم بالصياح تقدم يا نزار، ولكنّني تسمرت في مكاني وبهدوء وبآلية قفزت إلى رأسي عند تلك اللحظة الحاسمة، بدأت أفتح خيط حذائي الإيراني، ونزعته عن رجلي كليهما، ووسط صياح متعال، عبرت الحدود حافيا، بعد أنْ قدمت قدمي اليمنى، لأنّ أبي رحمه الله أوصاني بأنْ أقدم رجلي اليمنى حينما أدخل مكانا طاهرا، ولأنّ الحذاء كان إيرانيا فقد وجدت من المستحيل أنْ أدخل أرض العراق الطاهرة بحذاء إيراني). 

ملاحظات: 

قبيل أن أختم الحلقة الاولى من هذا السفر الوثائقي؛ فأني أرى أن (ان زيارة السامرائي إلى قصور آيات الله) تحولت بكثافة معلوماتها من المذكرات اليومية إلى دراسة معمقة تضاف إلى أدبيات القانون الدولي الانساني بوصفها وثيقة إنسانية تنتمي إلى روح اتفاقية جنيف الاربع وملحقاتها الإضافية، فالكتاب كما نوهت سالفا ليس مجرد سرد ليوميات الاسرى، بل يذهب إلى ما وراء الاقفاص والسجون والزنازين.. انه يكشف الكثير من الحقائق الغائبة من بينها:

1ـ العقيدة العسكرية القتالية للجيش الايراني 

2ـ ايديولوجيا ولاية الفقيه بكل فصولها واهدافها ومراميها 

3ـ موقف التجربة الإيرانية من الوطن العربي بلدا بلدا 

4ـ بعض ملامح الشخصية الإيرانية في نموذجها اللاهوتي المهيمن 

5ـ الكتاب يصلح ان يكون مادة معرفية في مناهج الاكاديميات العسكرية العربية وفي دول الخليج على وجه الخصوص.

Reacties

Populaire posts van deze blog

قراءة في كتاب ٤٠ عاما مع صدام حسين لمؤلفه نديم احمد الياسين / بقلم / سلام الشماع

اصل تسمية بغداد

العرب الاقحاح وهستيريا نجاح الفارسي بقلم الدكتور فالح حسن شمخي