الفجوة بين تطور التعليم العالي عالميًا وانهياره في العراق بعد الاحتلال/ بقلم أ.د عبد الرزاق الدليمي
الفجوة بين تطور التعليم العالي عالميًا وانهياره في العراق بعد الاحتلال
أ.د. عبدالرزاق الدليمي
حقيقة يحز بنفسي كلما اطلعت على مايحصل بالدول الاخرى من تقدم ورقي بالتعليم العالي واتذكر كيف كنا نحن ابناء التعليم العالي والذين تشرفنا باستلام المسؤوليات الاكاديمية فيه نحرص حتى في ظروف الحصار الظالم على ان نحافظ على مستوى لائق من رقي التعليم وتطوره في حدود الإمكانات المتاحة لنا رغم كل الظروف والتحديات القاهرة التي واجهتنا وبقى مستوى التعليم لدينا هو الأفضل في المنطقة
اليوم يشهد التعليم العالي عالميًا تحولات جذرية بفعل الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي. فالتقارير الدولية الحديثة، مثل تقرير Anara 2025 تؤكد أن أكثر من 92% من طلاب الجامعات في المملكة المتحدة يستخدمون الذكاء الاصطناعي في دراستهم، بينما بلغت النسبة عالميًا 86% بينهم 25% يستخدمونه يوميًا. كما تشير الإحصاءات إلى أن 88% من الطلاب وظفوا أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي في التقييمات الأكاديمية وأن 57% من الجامعات العالمية تعتبر الذكاء الاصطناعي اليوم أولوية استراتيجية. هذه الأرقام تكشف حجم الفجوة الرقمية والمعرفية التي بدأت ترسم ملامح عالم جديد يقود فيه التعليم العالي التنمية والابتكار.
الفجوة الكبرى
في المقابل يعيش التعليم العالي في العراق في كابوس مظلم وأزمة عميقة منذ الاحتلال الأميركي عام 2003 أزمة لم تتوقف عند حدود التراجع بل بلغت حد الانهيار البنيوي. فبينما تتجه الجامعات العالمية إلى دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج وإطلاق برامج بحثية ممولة بمليارات الدولارات مثل استثمارات الولايات المتحدة البالغة 109 مليار دولار في الذكاء الاصطناعي عام 2024 يقف العراق عاجزًا أمام أزمات هيكلية: نقص التمويل انهيار البنية التحتية، ضعف التشريعات وتسييس الجامعات.
قبل الاحتلال، كانت الجامعات العراقية رائدة في المنطقة. جامعة بغداد على سبيل المثال، كانت تضم كفاءات علمية يشار إليها بالبنان وقدمت آلاف البحوث التي رفدت قطاعات الصحة والهندسة والزراعة. لكن بعد 2003، تعرّضت هذه المؤسسات إلى تفكيك ممنهج إذ أُقصيت الكفاءات بحجة الاجتثاث السياسي وتعرض مئات الأساتذة للاغتيال أو التهجير وتحولت إدارة الجامعات إلى ساحة صراع بين الأحزاب والميليشيات. هذه الكوارث أفرغت التعليم العالي من مضمونه، وأفقدت الجامعة العراقية استقلالها ورسالتها.
إن الفارق بين التعليم العالي في العراق ونظيره العالمي الان لا يقتصر على التكنولوجيا فقط ! ففي حين تتبنى الجامعات المتقدمة سياسات واضحة للنزاهة الأكاديمية في مواجهة التحديات التي يفرضها الذكاء الاصطناعي يعاني العراق من تراجع خطير في معايير النزاهة سواء عبر تفشي الغش في الامتحانات أو ضعف الرقابة على الرسائل الجامعية او انتشار ظاهرة شراء البحوث. بينما تشير بيانات عالمية إلى أن حوادث الغش المتعلقة بالذكاء الاصطناعي ارتفعت بنسبة 400% بين 2022 و2025، فإن الجامعات المتقدمة تواجه هذه الظاهرة بإجراءات وقوانين حديثة بينما يفتقد العراق حتى لأبسط الأدوات التقنية لمراقبة نزاهة العملية التعليمية.
من زاوية أخرى يخصص العالم مليارات للاستثمار في البحث العلمي؛ الصين وحدها أنتجت 23% من منشورات الذكاء الاصطناعي عالميًا خلال العقد الأخير. أما العراق فميزانية البحث العلمي فيه تكاد تكون رمزية، ولا تتجاوز نسبًا ضئيلة جدًا من الموازنات السنوية وهو ما يضعه في ذيل التصنيفات الدولية.
إن هذا التباين يعكس حقيقة أن ما أصاب التعليم العالي العراقي ليس نتيجة ضعف داخلي فحسب بل هو نتيجة مباشرة لسياسات الاحتلال التي استهدفت تعطيل العقل العراقي. فمنذ 2003 فقد العراق الآلاف من أساتذته وباحثيه وتحوّلت الجامعة إلى مؤسسة مثقلة بالبيروقراطية والولاءات الحزبية بدل أن تكون منارة للعلم والإبداع.
اليوم بينما يناقش العالم قضايا الإنصاف الرقمي والفجوات الاجتماعية في الوصول إلى أدوات الذكاء الاصطناعي نجد أن العراق ما زال يفتقر إلى ابسط ماتعنيه البنية التحتية الرقمية الأساسية. ملايين الطلبة يعانون من نقص في الخدمات الجامعية ومن انقطاع الكهرباء والإنترنت ومن مناهج تقليدية لا تتواءم مع معطيات العصر حسب بل من تشويه وإقحام لأمور لا تتوائم ومجريات التطور المعاصر للتعليم ومضامينه واشتراطات تقدمه وارتقائه بين الآخرين.
إن الفجوة بيننا وبين العالم لم تعد مجرد مسألة وقت يمكن تجاوزه بل هي فجوة وجودية وازمة فلسفة وتصور وارادة تهدد مكانة العراق العلمية لعقود قادمة بعدما كان تعليمنا قدوة لكل دول المنطقة اصبحنا للأسف الشديد مثالا آخر للتراجع !!!فبينما يتحرك العالم بسرعة لدمج الذكاء الاصطناعي في كل تفاصيل التعليم العالي ما يزال العراق يعيش في مرحلة ما قبل الإصلاح حيث لم تُطرح بعد رؤية استراتيجية حقيقية لإعادة بناء الجامعة.
نقولها صراحة دون ان ننتقص من احد أن التعليم العالي العراقي إذا لم يتم إنقاذه من خلال مشروع وطني شامل يعيد الاعتبار للكفاءات ويؤمن التمويل ويضمن استقلالية الجامعات فإنه سيفقد ما تبقى من مكانته. وفي المقابل ستتعمق الفجوة بينه وبين الجامعات العالمية التي تمضي بخطى سريعة نحو المستقبل. فالعراق بحاجة إلى أن يستعيد حضور ووجود وكيان الجامعة كمؤسسة سيادية للعقل والهوية الوطنية العراقيةً وليس لغيرها وإلا سيبقى أسير الانهيار في زمن يصنع فيه الذكاء الاصطناعي مستقبل البشرية.
Reacties
Een reactie posten