أياد الطائي...(الشرّير) الذي بكاه الجمهور / مقالي الأسبوعي المنشور في جريدة( عُمان) بقلم / عبد الرزاق الربيعي


 أياد الطائي...(الشرّير) الذي بكاه الجمهور / مقالي الأسبوعي المنشور في جريدة( عُمان)


بقلم / عبد الرزاق الربيعي

يعاني بعض الممثّلين الذين يؤدّون أدوار الشرّ في أعمالهم السينمائية والتلفزيونيّة من صعوبة إقناع الجمهور أنّهم ممثّلون، والشخصيّات التي تُسند إليهم هي الشرّيرة، وليسوا هم، وكلّ ممثّل يسعى بكلّ أدواته الفنّيّة إلى أداء الشخصيّة المسندة إليه ليصل إلى درجة الإقناع، عن طريق التقمص، والاندماج، والاشتغال على توسعة مساحة الوهم، ليتحوّل الجمهور من متفرج إلى معايش للأحداث، وتدخل العاطفة طرفا في المعادلة، فيندمج الممثل في أداء الشخصية، وعلى الطرف الآخر يندمج الجمهور في تلقّي ذلك الأداء، وحين يبلغ الاندماج بين الممثّل والجمهور، أقصى درجاته، تكون العمليّة الفنّيّة قد وصلت ذروة النجاح.

وقد حصلت مفارقات كثيرة لممثّلين عرب عانوا من عدم تفريق الناس الذين يقابلونهم في الشارع، بين الشخصيّة التي يمثّلونها، وشخصيّتهم الأصليّة، في سنوات بعيدة، حينما لم يكن الجمهور قد اعتاد على فنّ التمثيل، وأوّل صدمة تلقّيتها عندما درّسني في المرحلة الإعداديّة، ممثّل وحين سألته عن أمور تتعلّق بفن التمثيل أنكرَ معرفته بذلك، وقال أنّ الذي شاهدته على الشاشة ممثّلا يشبهني في الشكل"، وبعد سنوات اجتمعنا في أحد المسارح، فذكّرته بذلك، فقال: " نعم، كنت أدّعي ذلك، لكي لا تزحف صور الشخصيّات التي أؤدّيها في التلفاز في أذهان طلبتي على شخصيتي كأستاذ يؤدّي واجبه كمدرّس"!، ورغم أنّ الجميع أدرك أنّ التمثيل" كذبة متّفق عليها مسبقا"، وأنّ (مجرم الشاشة) محمود المليجي في حقيقته ليس سوى إنسان طيّب، كما يقول كلّ من عرفه عن قرب، وكذلك(توفيق الدقن) و(عادل أدهم)، إلّا أنّ جريرة المليجي، والدقن، وأدهم، وكثير من الممثّلين الذين برعوا في أداء أدوار الشر أنّهم جعلوننا ننسى أنهم ممثلون، في غمرة اندماجنا مع الشخصيّات التي أدّوها على الشاشتين الصغيرة والكبيرة، وعلى خشبة المسرح، حيث التماسّ المباشر مع الممثّلين، وقد حصل لي موقف لا يُنسى في مطلع الثمانينيات بعد مشاهدتي لمسرحية شكسبير (عطيل) في عرض جرى تقديمه في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وكان من إخراج الفنان فخري العقيدي الذي كان أستاذا للتمثيل في المعهد، حيث أدّى دور "ياغو" الشرير الفنّان حيدر منعثر، وكان طالبا في المعهد، فبرع في أداء الشخصيّة، وأظهر قدرة فائقة على التعبير عن شرور النفس البشرية عندما تُحيك مؤامرة فيها من الخبث والكراهية ما يفوق ما يصنعه عتاة المجرمين، تلك المؤامرة، كما هو معروف، انتهت بقتل (عطيل) لزوجته(دزدمونة) البريئة من تهمة الخيانة التي ألصقها بها ( ياغو) بفضل دسائسه ومكره عليها، وحين انتهى العرض، لم أذهب لتحيّة الفنّان (حيدر منعثر) على براعته في الأداء، بل ضمرتُ له كراهيّة شديدة، جعلتني أغادر قاعة المسرح بخطى سريعة، وحين وصلت البيت استرجعت ما جرى، فندمتُ لأنني لم أبارك للممثل براعته في الأداء، لذا، عدت في اليوم التالي إلى المعهد،  والتقيتُ به في النادي، وحيّيتهُ ونقلتُ له مشاعري السلبية تجاهه بعد خروجي من القاعة، فضحك، وابتدأت معه صداقة وثيقة ظلّت مستمرّة إلى اليوم، وعرفتُ أن الممثل الجيّد حين تسند إليه الشخصيّة، فلا يفكر إلّا بتقمّص الشخصية وإظهارها بأفضل ما يستطيع، واضعا في حساباته أنّ تلك الشخصيّة قد تكسبه كراهيّة الجمهور، وهي كراهية لن تدوم طويلا، فبمجرد انتهاء المسلسل أو الفيلم، أو المسرحيّة، وعودة الجمهور للواقع وملابساته، تزول في الغالب تلك الكراهية، وإن بقيت آثارها عالقة في ذاكرة الجمهور.

وضمن هذا السياق، عانى الصديق الفنّان أياد الطائي الذي غادر عالمنا الجمعة الماضي الكثير، وهو المعروف ببراعته في أداء أدوار الشرّ، رغم أنّه أدّى مختلف الشخصيّات، على المسرح، وبرع فيها، ولي معه تجربة لم تكتمل، في مسرحيّتي(ضياع) للمخرج حسين علي صالح، وكان يبذل مجهودا كبيرا في أدائه لشخصيّة(المهرج)، وقبل العرض بثلاثة أيّام تعرّض لنوبة قلبيّة، فرقد في المستشفى، أيّاما، وأجرى عمليّة، وتأجّل العرض، وبعد خروجه من المستشفى نصحه الطبيب بعدم بذل أيّ مجهود، فأدّى الشخصيّة بدلا منه الفنّان طه المشهداني، وحين التقيته في عمّان العام الماضي، وحدّثته عن كمّيّة الشر التي ظهر عليها في أدائه لشخصيّة الشرطي الفاسد في مسلسل (روح) للمخرج المبدع حسن حسني، بحيث أن زوجتي (جمانة) كانت تتشاغل عند ظهور المشاهد التي يظهر بها، لكيلا تقع عيناها على صورته وتخفض صوت التلفاز لكيلا تسمع صوته، ونقلتُ له هذا الشعور، فضحك، وقال: طبيعي جدّا، فوالدتي قاطعتني لمدة شهر بعد عرض المسلسل! 

لكنّ الجمهور بعد أن قرأ خبر إصابته بمرض عضال حزن كثيرا، فالممثل الذي سخّر موهبته لتجسيد الشخصيّات الشرّيرة، بكلّ ما فيها من خسّة ونذالة، ساهم في إدانة المجتمع لها، ونبذها، وقد عبّر الجمهور عن محبّته للفنّان النبيل الطيّب، الخجول، الهادئ، الذي هو أبعد ما يكون عن الشرّ، فبكى لوفاته. 

رابط المقال: 

«الشرّير» الذي بكاه الجمهور https://www.omandaily.om/article/1187825

Reacties

Populaire posts van deze blog

قراءة في كتاب ٤٠ عاما مع صدام حسين لمؤلفه نديم احمد الياسين / بقلم / سلام الشماع

اصل تسمية بغداد

الاذاعة الكردية صوت وتاريخ اسكت عام ٢٠٠٣ بقلم / سيروان بابان