عالم ساحر في متناقضاته....نزار السامرائي
عالم ساحر في متناقضاته
نزار السامرائي
ربما يحتاج الموضوع الذي سأضعه بين يدي القرّاء الكرام مقدمة موجزة قد
تثير شيئا من الدهشة لديهم.
من يعرفني فهو يعرفني ومن لا يعرفني، فأنا عربي الأصل عروبي التوجه
قومي التفكير بعثي الانتماء، أؤمن بالتنوع الفكري والسياسي، ولكنني أؤمن أيضا بأن
الإسلام السياسي ألحق ضررا فادحا بالإسلام لم يلحقه به ألدّ أعدائه منذ فجر
الإسلام وحتى يومنا هذا، وهذا الحكم بالنسبة لي قاطع لا يستطيع كائن من كان أن
يقنعني بخلافه.
وتتساوى عندي في هذا الحكم الأحزاب والحركات والمنظمات الإسلامية
الشيعية والسنيّة على حد سواء، ولم تفعل ذلك بالإسلام فقط بل أفسدت الحياة
السياسية بعقد وخلافات يعود تاريخها إلى بداية نشوء الدول التي أعقبت الخلافة
الراشدة، بل يذهب كثير من الشيعة إلى أنها تعود لواقعة السقيفة، وخاصة أولئك الذين
تأثروا بما طرحه الكليني والطوسي والطبرسي والأحاديث التي لفقوها ونسبوها لأئمة
التشيع، وما أدخله الصفويون على الإسلام من بدع حتى تحولت مع كثرة الترديد
الببغاوي والجهل المركب إلى مسلّمات وكأنها هي العقيدة الإسلامية وما عداها فيُنظر
إليه على أنه باطل وكفر ومروق عن الإسلام.
ولعل تجربة الإسلام السياسي إذا اعتبرنا أن تجربة السلطة الحاكمة في
العراق تجربة إسلامية، تشكل الدليل على مدى ما ألحقه الحكام الذين جاءوا يلهثون
وراء حذاء الجندي الأمريكي، ثم عندما وجدت أمريكا أن ثمن بقائها في عالي الكلفة،
يمموا وجوههم نحو إيران لا سيما وأنها هي التي نسقت مع خطط الغزو خطوة بخطوة
لإنجاح الغزو الدولي وإسقاط تجربة الحكم الوطني الذي كان جبلا شاهقا يصد الرياح
الصفراء ويحول بينها وبين الوصول إلى الأمة وبين أهداف إيران التوسعية في الوطن
العربي والعالم، فلعب الإيرانيون اللعبة ببراغماتية عالية، في حين انساقت دول
الخليج العربي بغفلة أو بغباء، وراء نوايا الشر المستبطن وعقد الماضيين البعيد
والقريب بحيث باتت تستنطقهما كلما خبت بعض نار الفتنة، فصاروا لعبة مقامرة بائسة
وظنوا (وما زالوا يظنون) أن الولايات المتحدة وكالة أمنية تعمل كمرتزق دولي يأخذ
أجره من دون أهداف سياسية ثم يمضي في طريقه بعد أن يحمي ملكهم، وعميت الأبصار عن
الحلف غير المعلن بين المصالح الغربية والإيرانية، فشحذوا سكاكينهم ونحروا العراق
وراحوا يرقصون على جثته على مزامير الباطل وظنوا أنهم أراحوا واستراحوا، وإذا بهم
وجها لوجه أمام تغوّل فارسي بدعم أمريكي وأوربي وروسي ومن كل حدب وصوب معلن حينا
على استحياء وخفي في معظم الأحيان، فتحولت بلدانهم إلى منجم لأثمن المعادن التي
يجني منها الكبار ما لذّ لهم وطاب.
خلاصة القول، إن حركة الإخوان المسلمين وهي جزء من الإسلام السياسي،
أنظر إليها كما أنظر إلى تجربة الولي الفقيه في إيران والحرس الثوري (المصنف نظريا
كحركة إرهابية) وحزب الدعوة وحزب الله اللبناني وغير ذلك من الحركات والمليشيات
التي زرعتها إيران في طول الوطن العربي وعرضه، هذه الحركات مجتمعة أو منفردة ألحقت
بالوطن والمواطن والعقيدة الإسلامية من الضرر والإساءة ما لم تلحقه حتى الحركات
الفكرية الإلحادية والعقيدة الشيوعية، ونتيجة مواصلة النهج السياسي والفكري لهذه
الحركات فقد صار باستطاعة المراقب أن يحكم على أن هذا النهج، مرسوم ومخطط له من
قبل أطراف تبطن الشر الحقيقي للإسلام.
لكن هذه الأحكام لا ينبغي لها أن تكتسب الدرجة القطعية ونسوق الجميع
إلى زنزانة الانغلاق الفكري، إذ يجب ألا يغيّب المحظور الثانوي عن أذهاننا المحظور
الرئيس، وعلينا أن نقر في نهاية المطاف أن حركة الإخوان المسلمين إن كانت قد
ارتكبت عمليات إرهابية وقد فعلت ذلك، فإنها لن تصل إلى عشر معشار ما ارتكبته
المليشيات المرتبطة بسلطة الولي الفقيه، مثل حزب الله والمليشيات الشيعية في
العراق وسوريا واليمن والخلايا النائمة في المملكة العربية السعودية، ثم علينا ألا
نهمل حقيقة أساسية في أنشطة المنظمات التي ترعاها دولة الولي الفقيه في إيران، هي
أن الأخيرة تستند أولا إلى تخطيط ودعم دولة معترف بها في المجتمع الدولي وتريد أن
تؤدي دورا إقليميا أكبر من حجمها في حين أن حركة الإخوان المسلمين لا تمثل دولة
ولا تمثلها دولة، وثانيا أن طبيعة الجرائم التي ترتكبها هذه الحركات جرائم ذات
صبغة طائفية تسعى لحذف السنّة من الخارطة السكانية حيثما وُجدت فيها وهذا ما
يجعلها جرائم عنصرية أو ما يسمى بالتطهير (هذا المصطلح أمقته وأرفضه)، وكل تلك
الجرائم تقيّد على أنها لمواجهة الإرهاب، تحت سمع العالم وبصره من أجل شراء الصمت
الدولي، في نفس الوقت الذي ترفع فيه شعارات الموت لأمريكا والموت لإسرائيل، أما
العمليات التي تنسب لحركة الإخوان المسلمين أو من الذين يزعمون الارتباط بها وهم
ليسوا جزءً من التنظيم، فهي في عمومها عمليات ذات طابع سياسي، وإن كانت تنم عن طفولة
عقائدية وجهل سياسي، فهي تعبر أحيانا عن ضيق صدر عما يجري حولها من أحداث سياسية
على المستويين الداخلي أو الخارجي.
وعلينا أيضا ألا نغفل حقيقة أخرى لا تقل عن الحقائق السابقة وهي أن
إيران دخلت على خط تقديم الدعم السياسي والمالي والعسكري للحركات القريبة من
الإخوان المسلمين أو المحسوبة عليها، وهنا علينا أن نتوقف عند نقطة في غاية
الأهمية، وهي أن إيران لا تقدم دعما مجانيا لأحد أبدا فلا بد أن تجني من كل دولار
ألفا بدلا عنه كما أعلن أحد قادة الحرس الثوري الإيراني، فإيران توجه تلك الحركات
لتنفيذ خططها بما يخدم منظومة الأمن القومي الإيراني فقط، ثم لتقع تبعات تلك
العمليات على منفذيها كأفراد أو منظمات وتخرج إيران من المشهد من دون أية خسارة.
ما أريد أن أقوله من مقالي هذا إنني لا أتبنى أطروحة الإخوان المسلمين
بل وأرفضها رفضا قاطعا، ولا أريد الدفاع عنهم إن كانوا متهمين فهم أولى بذلك مني،
ولكنني أراقب الساحتين العربية والدولية فألاحظ أن الجميع قد ترك الإرهاب الإيراني
وخاصة إرهاب الحرس الثوري وحزب الله اللبناني سواء في سوريا أو اليمن، وإرهاب
المليشيات الشيعية في العراق والحركة الحوثية، التي تتسم بطابع واحد هو التغيير
الديموغرافي وفرض التشيع بالإرهاب والتجويع ثم إلقاء قارب مليء بالخبز للجياع
وتخييرهم بين الموت أو قبول التشيع كدين لهم، فهل الإخوان المسلمون كذلك؟ على
العكس إنهم ونتيجة ما يستشعرونه من حصار سياسي وأمني فقد اضطر بعضهم لمد أيديهم
إلى إيران، وحافظ الإخوان المسلمون في سوريا على نقاء الانتماء إلى العروبة وإسلام
التوحيد، وراحوا يتعقبون ما يرتكبه ما يسمونه بالإرهاب السني ويلقون عليه كل أوزار
ما يتعرض له العالم، ومما مكنهم من ذلك أن داعش تتبنى أية عملية إرهابية تقع في أي
مكان حتى إذا حصلت في صالة قمار بين متراهنين مختلفين على الغنيمة.
إيران كدولة تقود إرهابا دوليا واسع النطاق كانت منطقتنا ضحيته
الأولى، بدأت صفحاته الأولى بالعدوان الإيراني على العراق نتيجة رفع خميني شعار
تصدير الثورة، ثم ما أعقب ذلك من ممارسات لاحتلال بيت الله الحرام من قبل الحرس
الثوري ومحاولتهم إعلان البيعة له من هناك، ثم ما أعقب الاحتلال الأمريكي وتحول
السلطة في العراق من سلطة مدنية إلى سلطة طائفية تعتمد ولاية الفقيه كمنهج ثابت مع
تكفير كل من يخرج عن هذا الخيار، أما ما جرى من قبل الحوثيين في قصف مكة المكرمة
بصواريخ بالستية زودتهم إيران بها، فهو عدوان على أعظم مقدسات المسلمين، فهو يمر
كمر السحاب.
فلماذا يتعامل العالم مع إيران بهذه المرونة؟ ولماذا كانت الولايات
المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوربي على ذلك القدر من الحماسة لتدمير
العراق؟ مع أنه أكد مرارا وبالدليل القاطع على تفنيد كل مزاعم الكراهية التي أطلقها
البوشان الأب والابن وتوني بلير ومعهم الاتحاد الأوربي ومدير عام الوكالة الدولية
للطاقة الذرية الذي مع الأسف أنه يحمل الجنسية العربية، في حين يتعامل العالم بهذا
القدر من المرونة والعقلانية مع تحدي إيران للأسرة الدولية وهي تمارس أعلى درجات
البلطجة ليل نهار، وتهدد الملاحة الدولية في الممرات الدولية الاستراتيجية وتسقط طائرة أمريكية حديثة من دون طيار وتحتجز
ناقلات النفط وغير ذلك من العمليات الإرهابية، وسط أعلى ضجيج أجوف من الرئيس
الأمريكي دونالد ترمب الذي تحول إلى أضحوكة في مسارح العالم السياسية، ولكنه قبل
ذلك كان قد أفرغ خزائن دول الخليج العربي من موجوداتها وأدخلها في ضائقة مالية
وعجز في ميزانياتها، كل ذلك تم تحت لافتتين، الأولى توفير مظلة الحماية من المخاطر
الإيرانية والثانية حل مشاكل الصراع البينية بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي، ولكن
أيا من الهدفين لم يتحقق منهما شيئا فكانت الخسارة مركبة، فهو تركهم يعتمدون على
الحماية الخارجية بدلا من اعتماد خطة بناء استراتيجي للأمن القومي، ومن جهة أخرى
ترك الشارع المحلي يمور في أزمات اقتصادية بدلا من انفاق تلك الأموال على مشاريع
التنمية الحقيقية وليست المظهرية.
صارت إيران نتيجة الإخفاقات البائسة للولايات المتحدة والتي لو كان
ترمب قد وفر قليلا من التهديد والوعيد ونفذ القليل منهما لردع إيران وحجّمها
وأوقفها عند حدها، لكن الاستراتيجية الغربية في جوهرها اختارت التحالف الثابت مع
إيران ولو كان على حساب العرب جميعا، لنلاحظ مواقف فرنسا وألمانيا وبريطانيا من
إيران ووضعهما الكوابح بوجه أي محاولة لإدانتها في أي محفل دولي أو أوربي، فإلى
ماذا يشير هذا؟
بالمقابل تجري دول العالم بحثٍ عربي ونتيجة حساسيات غير مبررة وغير
مفهومة المقاصد، إلى تعقب الإخوان المسلمين في كل مكان، بل انسحبت التهمة على
تركيا فأُخذت بجريرة لم ترتكبها، فنرى تركيا تتعرض هذه الأيام لملاحقة من جانب
الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي تارة بحجة تهديد أمن حلف شمال الأطلسي نتيجة
شرائها منظومة الدفاع الجوي S400 وتارة بالتدخل في سوريا وهو التدخل
الوحيد الذي ساند وبثبات ثورة الشعب السوري واستضافت تركيا ملايين السوريين، وتارة
ثالثة في موضوع التنقيب عن الغاز في المنطقة الاقتصادية لقبرص ورابعة وخامسة
والحجج لا تنتهي.
لكن الحقيقة التي لا تغيب عن المراقب الحصيف، أن لأوربا ثارا تاريخيا
مع تركيا العثمانية، فالدولة العثمانية هي التي نشرت الإسلام في أوربا، ولولا
الحلف الصفوي مع أوربا في بدايات القرن السادس عشر وما زال قائما إلى اليوم لأصبحت
النمسا ودول أوربية أخرى جزءً من ممتلكات الدولة العثمانية حتى قال أحد المفكرين
الأوربيين، نحن مدينون لفارس بدين ثمين إذ لولاها لكنا اليوم نقرأ القرآن.
هنا على ما أظن تكمن الأسباب الجوهرية لحقد أوربا وأمريكا جزء من
تراثها الثقافي والفكري على تركيا، ولكن مما يؤسف له أن بعضا من العرب وكما
انساقوا وراء الجزار الذي نحر العراق عام 1991 وعام 2003، ها هم اليوم يركضون من
دون تفكير وراء نفس الجزار الذي يريد حز رقبة تركيا.
وأخيرا لقد عاش الوطن العربي فوضى سياسية خلال العقود الأخيرة، السؤال
كم عربي اختار اللجوء إلى إيران؟ بل كم عربي بمن فيهم الشيعة سمحت له إيران بدخول
أراضيها، وما ينطبق على إيران ينطبق على دول الخليج العربي بدرجات متفاوتة.
Reacties
Een reactie posten