الموالاة والعتاقة والمعارضة في ظل السلطة والاحتلال في اللغة الغوغائية وفوضى المصطلحات ا.د. عبد الكاظم العبودي
الموالاة والعتاقة والمعارضة في ظل السلطة والاحتلال
في اللغة الغوغائية وفوضى المصطلحات
ا.د. عبد الكاظم العبودي
شهدت السنوات الأخيرة تداول إعلامي واسع
لمصطلحات سياسية وترد تحت باب "الموالاة أو المعارضة "
في عدد من الدول العربية، وكأنها مبتدعات وفذلكة لغوية لحالة حداثوية جديدة، رغم أن
الموالاة مصطلح عربي قديم جديد، لكنه يستغل بتعمد مقصود ألآن، في تعابير ومفردات الإعلام
العربي، ويلاحظ تطبيقه وتسريبه وفق معايير
ومواقف انتقائية محددة، وعلى ضوءه يجري تصنيف المواقف وفرز الأتباع والخصوم، سواء الموجودين
في سرادق السلطات العربية الحاكمة وتحالفاتها أو في خنادق ومتاريس المعارضات
العربية داخل اللعبة الديمقراطية وخارجها .
تجمع القواميس والمعاجم العربية على مرادفات
تعريفية للموالاة ، فهي لغويا: اسم مصدر
من الفعل والى . والموالاة شرعا : أَن يعاهد شخصٌ شخصًا آخر، والموالاة فقهيا : هي التناصر والولاء والنصرة.
أما
الفعل ( والى) ، ومنه المضارع ( يوالي)
ومنه وال، موالاة، والمفعول مُوالى. وعندما يقال : والى بين الأمرين، أي
تابع بينهما. ووالى الشيء : تابعه. كما أن: والى فلانا: أي أحبه. ونصره، وكذلك حاباه....
الخ..
كان من ابرز سمات الأزمة السورية المعاصرة هو
استهلاك مثل هذا المصطلح، حيث أفرزت الأزمة السورية، وحسب ما أشار إليه د. بسام ابو عبد الله: (تربة خصبة لتشويه
المفاهيم والمصطلحات، وضُخت أخرى
بهدف حرف البوصلة لدى المواطن السوري عن حقيقة ما يجري على أرض وطنه، وتم خلط
الأوراق، وتشويه عقل ورؤية الشباب للمستقبل).
ونحن نشهد حرب المصطلحات فعلا، تروجها وسائط الإعلام وتفبركها هيئات
التحرير الخبري والإعلامي في قنوات الاتصال الاجتماعي، ليتم لاحقاً إطلاق مصطلحات
ومرادفات أخرى، تتصف بمراميها وأغراضها الواضحة، فهي مرامي تقسيمية تارةً،
ومذهبية، وتارةً إثنية، توظف بهدف نسف الهوية الوطنية لمجتمعات عربية معينة، خاصة
تلك التي تعيش حالات قلق ولا استقرار بسبب الأزمات العاصفة والحادة التي تجتاحها
بلدان معينة خاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغيرها.
وظف الإعلام السوري الحكومي، وخلفه الإعلام اللبناني الطائفي، وبدفع مركز من وسائط
الإعلام الإيراني استهلاك مصطلح " الموالاة " ومقابله "المعارضة
"، رغم ان سوريا والعراق وبلدان عربية اخرى تعيش في حالة انتهاك مطلق للسيادة
الوطنية، ومنها تعيش تحت حكم وتأثير سلطات احتلالات لجيوش عسكرية أجنبية تملي إراداتها،
حتى بات الموقف من وجود الحاكم المحلي وموالاته او معارضته، قضية مركبة تصنف ضمن
حالة ازدواجية الولاء، وحتى الاحتماء بالأجنبي ومناصرته وموالاته، كما هو الحال في أوضاع العراق وسوريا ولبنان الحالية
مع الغزو الإيراني الفارسي ؛ الأمر الذي يجعل من استخدام مثل هذه الاصطلاحية موضع
الشك في مدى مصداقيتها ودقتها العلمية وحتى الفقهية والشرعية.
لقد قُصد المروجون والمتقولون بهذه الاصطلاحية، بقصد، وعلى نحو سلبي،
فكان لسان حالهم وكأنه يوحي عن مثل تلك
" الموالاة": ( كل من دافع عن
وطنه سورية من قطاعات الإعلام، والسياسة، والاقتصاد، والدين، والفن، والجيش،
والأمن، وكل مواطن شريف).
كأن "المعارضة" في
المثال السوري ، وحتى العراقي ، من وجهة نظر أنصار تلك " الموالاة " المنحازة والمؤدلجة طائفيا حين تسعى إلى: ( إظهار الملايين من السوريين و [ العراقيين] بصورة الواقفين ضد الحرية، وإنهم مع القتل،
والتدمير والفساد، وقمع الحريات، وتمركز الثروة) ، وهكذا يتم التعامل معهم وعزلهم
والحاق الأذى بهم، استنادا على مثل هذا الأساس التصنيفي المغلوط ، وبمواقف تصل في
كثير منها إلى الإدانة والتخوين، وحتى التحريض على، ( قتلهم، واغتيالهم،
واستهدافهم، والتحريض عليهم، حتى دون فهم، وإدراك لحقيقة مواقفهم، ومن دون الكشف عن
ما في قلوبهم، وإجراء فحص حمض نووي
لمشاعرهم لمعرفة هل هم مع تطور سورية، وحريتها أم لا) على حد تعبير الكاتب د. بسام ابو عبد الله .
بطبيعة الحال يستمر الإعلام الطائفي المنحاز بترويج مثل هذه "
اللغة الغوغائية" ، التي لوثت الخطاب السياسي العربيـ وامتدت ألسنتها ومفرداتها
إلى خطاب إقصائي في اكثر من بلد عربي، ويتمدد نشر هذا الخطاب واستعماله إلى خارج
بلاد الشام ولبنان، وصولا إلى بلدان الخليج العربي والجزيرة، كالبحرين واليمن، وقد وصل الأمر بهذا الخطاب إلى تخوين المعارضة
ذات التوجهات الوطنية والقومية العربية، وشمل
كل من يقف بالضد أو الاختلاف مع تلك الموالاة المرتبطة بالعروش الحاكمة أو بالسلطات
المتعاونة مع قوى الاحتلال الأجنبي والسائرة في ركابه وخاصة تلك الرافضة للنفوذ
الفارسي ومخططاته التدميرية للحمة الشعب العربي.
بطبيعة الحال تسربت مثل هذه الحالة الفيروسية ومصطلحاتها حتى إلى جسد
الأحزاب والتنظيمات السياسية في حياتها الداخلية، وضمن أنشطتها التنظيمية، لتتحول
كتلها وانشقاقاتها اللاحقة الى موالاة ومعارضات متشرذمة. فحتى تلك القوى المتواجدة
خارج منظومات الحكم أو السلطات الحاكمة، خلقت ظروفا من الانتهازية السياسية بين أفراد
التنظيم الواحد، ليستغلها الشخص أو المجموعة المتسيدة على رأس التنظيم أو التحالف
السياسي، فيقرب هذا، ويحارب ذاك، مما سبب
ويسبب حالات من الانشقاقات والانقسامات الأميبية في كثير من التنظيمات العربية،
تشجعها مراكز القرار في هذا التنظيم أو ذاك ، وخاصة لصالح من يمتلك المال والإعلام
السياسي ، الذي بات صاحب الأمر والقرار الناهي لتحديد من هم جماعة الموالاة ومن هم جماعة المعارضة.
ومثل هذه المفارقات المعاصرة نجدها في عمق التراث العربي والإسلامي،
القريب والبعيد، متزامنة مع كثير من حالات الصراع التي شهدت الفتن والانشقاقات
داخل وخارج منظومات ونخب الحكم وحتى ضمن صفوف المعارضات أيضا.
وبالعودة إلى هذين المصطلحين
ومرادفاتهما مرة اخرى، نجد استخدام مثل هذا المصطلحات في الحياة الإسلامية، وبنوعين
من الأحكام في مواقع أخرى من التناول لهما في مسميات أخرى : أحدهما عرف ( ولاء
عتاقة) ، ويسمى (ولاء نعمة)، وسبب هذا الولاء: أولا: الإعتاق عند الجمهور، وثانيهما ولاء الموالاة.
وبهذا الصدد نجد شروحا كثيرة في الموسوعات الفقهية العربية والإسلامية حول: مولى
الموالاة وهو اصطلاح مركّب من لفظين هما: مولًى, والموالاة. المولى مأخوذ من الولاء, وهو النصرة والمحبّة, كما أسلفنا توضيحه أعلاه.
ويطلق المولى على: ابن العمّ وعلى العصبة عامّةً, وعلى المعتَق ( بالفتح ),
والمعتِق ( بالكسر ) , وعلى الحليف , والنّاصر) . وتفسير الموالاة لغةً: أنها مصدر للفعل والى,
يقال: والاه موالاةً وولاءً , من باب قاتل : تابعه . ومولى الموالاة اصطلاحاً هو :
أن يؤاخي شخص مجهول النّسب شخصاً معروف النّسب ويوالي معه , كأن يقول : أنت مولاي،
ترثني إذا مت , وتعقل عنّي إذا جنيت , وقال الآخر : قبلت . أو يقول : واليتك , فيقول : قبلت بعد أن ذكر الإرث والعقل في العقد , ويسمّى هذا
العقد " موالاةً " والشّخص المعروف النّسب : " مولى الموالاة " .
وهكذا فان لفظة (العتاقة) باتت شائعة عربيا، يلفظها العامة من الناس،
وكذلك الخاصة منهم، والقليل من يدركها
اليوم بدقة، ضمن الألفاظ ذات الصّلة. أما مولى العتاقة، وتعني : من له [ولاء
العتاقة] , ويطلق على من عتق عليه رقيق أو مبعّضٌ بإعتاق منجّز استقلالاً , أو
بعوض كبيع العبد من نفسه , أو ضمناً كقول الرّجل لآخر : أعتق عبدك عنّي فأجابه
الآخر , أو بكتابة منه , أو تدبير , أو باستيلاد أو قرابة كأن يملك من يعتق عليه
من أقاربه بإرث أو بيع , أو هبة .والصّلة بينهما أنّ كلاً من مولى العتاقة ومولى الموالاة سبب من أسباب
الميراث عند من يقول ببقاء الميراث لمولى الموالاة. وهناك أحكام متعلقة بمولى
الموالاة ، اختلف حولها الفقهاء في قضايا الميراث، وتلك قضية يطول شرحها هنا في
هذه المقالة الموجزة.
وفي فترات الانحطاط السياسي،
وتعدد الولاءات والاختلاف حولها، غالبا ما تبرز مثل هذه التقسيمات بشكل حاد، وتستغل
مصنفاتها التعبيرية، اجتماعيا ودينيا وطائفيا ومذهبيا وحتى فئويا، لغرض تقريب الأتباع وعزل الخصوم السياسيين خاصة .
واتسع التقسيم إلى مفاهيم أخرى باتت ابعد مثل (الموالاة والبراء ) وغيرها من
مقاربات المصطلحين الأصليين.
يعتبر موضوع
الولاء والبراء من أصولِ العقيدةِ الإسلاميةِ
يرى المؤمنون به : ( أنَّه يَجبُ على كلِ مسلمٍ يَدينُ بهذه العقيدةِ أنْ يوالىَ
أهلهَا ويعادىَ أعداءَها فيحبُ أهلَ التوحيدِ والإخلاصِ ويواليهِم، ويُبغِضُ أهلَ
الإشراكِ ويعاديهِم . تحول مصطلح "الولاء والبراء" إلي عقيدة
في الجماعة والتنظيم، والموالاة والمعاداة في حب التنظيم وكره بل والقتال من أجله
في بعض الأحيان .
يشير د.عدنان إبراهيم ، في خطبة له عن الولاء والبراء،
ويذكر فيها موقف بعض المفسرين عند تفسير آية: [ ومن يتولهم منكم...]، حيث قسم
الولاية إلى ولاية مطلقة، ومطلق الموالاة. ويتساءل فيها: ( فهل عند وصف حال الرضا
بدين غير المسلم وتصحيحه يمكن أن نصفه بولاية مطلقة بدلًا من موالاة مطلقة عند
المقارنة بمطلق الموالاة، بحيث نقول: هناك نوعان من موالاة غير المسلم: ولاية
مطلقة، ومطلق الموالاة - أي لغويًّا-؟ وهل الولاية المطلقة تعني موالاة مطلقة عند
وصف شيء معين بأن ذلك قد ينقض الإسلام؟). وممن استعمل عبارة: مطلق الولاية، ابن
عرفة، في تفسيره، حيث قال: قوله تعالى: [لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا] ـ وقال
في أول السورة: [ لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ ـ]. والجواب
حسبه :(... أن هذا في عموم المؤمنين
بالنسبة إلى المشركين، وتلك في قضية حاطب، فيقيد في هذا النهي عن مطلق الموالاة،
وفي تلك النهي عن اختصاصها؛ لأنا إن قلنا: إنها نزلت في اليهود من جهة، أنهم كانوا
يوالونهم بعض موالاة ، فهو أتم حكمًا، فلم يقع في أخص الموالاة، بل أعمها، وأما
أخصها فمعلوم من المخاطب عدم الاتصاف به حيث ما شهد له النبي صلى الله عليه وعلى
آله وسلم بحضوره بدرًا، أو أنه مغفور له).
فإن قلت: كيف ينهى عن مطلق الموالاة، وقال تعالى [لَا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ
يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ] . قلت: المراد بذلك المسالمة والمشاركة، لَا
الموالاة.
فإِن قلت: المراد بالإقساط الإعطاء، وقيل:
المعروف بالنفل، وقد ذكر عياض في المدارك أن القاضي إسماعيل قام لنصراني، واحتج
بالآية.
وما ذكره عن ترتيب المدارك للقاضي عياض ذكره في
ترجمة إسماعيل القاضي، فقال: (حدث الدار قطني
أن إسماعيل القاضي دخل عنده عبدون بن صاعد الوزير، وكان نصرانيًّا، فقام له ورحب
به، فرأى إنكار الشهود ذلك، فلما خرج، قال: قد علمت إنكاركم، وقد قال الله تعالى:
لا ينهاكُمُ اللهُ عن الذين لم يُقاتِلوكُم في الدين ـ الآية، وهذا الرجل يقضي
حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر، فسكتت الجماعة عند
ذلك). ونقله
القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن، وقال ابن الجوزي في زاد المسير: قال
المفسرون: ( وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برّهم،
وإن كانت الموالاة منقطعة).
وعلى أية حال؛ فالموالاة المطلقة تعني الموالاة
التامة الكاملة من كل وجه، ومطلق الموالاة يعني أصل الولاية، وأقل ما ينطبق عليه
اسمها، قال البدراني في كتابه الولاء والبراء والعداء في الإسلام ( : الأصل
حملُ الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة على الولاء المطلق، وهو الولاءُ التام
الكامل، لا على مُطلق الولاء ما لم يقترن به ما يدلّ على خلاف ذلك).
والمعروف في هذا الباب من التفريق: هو تفريق بعض
أهل العلم بين مصطلح الولاية، ومصطلح التولي، جاء في كتاب الولاء والبراء والعداء
في الإسلام : لفظ الموالاة أعم من التولي، حيث إن الموالاة هي
المحبة، بغض النظر عن درجة هذا الحب ومرتبته، فكل من أحببته وأعطيته ابتداءً، من
غير مكافأة، فقد أوليته وواليته، والمعنى أي: أدنيته إلى نفسك...
أما التولي: فهو الموالاة المطلقة، أي: بمعنى
تقديم كامل المحبة والنصرة للمُتولَّى، بحيث يكون المتولّي مع المُتولَّى كالظل مع
الجسم، فهي ذروة الموالاة ومُنتهاها... فالتولي إذن بمعنى الاتخاذ والإتباع
المطلق، وهو يعني الانقطاع الكامل في نصرة المتبع، وتقريبه، وتأييده... وعلى هذا؛
فالتولي أخص من الموالاة، فكل تولٍّ داخل في مفهوم الموالاة، وليس كل موالاة داخلة
في مفهوم التولي.
اختلف أهل العلم في الفرق بين الموالاة والتولي،
فمنهم من يرى أن التولي مرادف لمعنى الموالاة، سواء بسواء، كالشيخ عبد الرحمن بن
سعدي ، ولذلك فهو يستعملهما على أنهما لفظان مترادفان، فيقول عن التولي عند
تفسيره لقول الله تعالى: ( وَمَنْ يَتَوَلهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 9]. إن الظلم يكون بحسب التولي، فإن كان توليًا تامًّا
كان ذلك كفرًا مُخرجًا عن الإسلام، وتحت ذلك من المراتب ما هو غليظ وما هو دونه.... ومنهم من يرى أن هنالك فرقًا بين الموالاة
والتولي... يقول الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: إن الموالاة تنقسم إلى
قسمين:
أولًا: موالاة مطلقة عامة، وهذه كفر صريح، وهي
بهذه الصفة مرادفة لمعنى التولي لأجل الدين، وعلى ذلك تُحمل الأدلة الواردة في
النهي الشديد عن موالاة الكفار، وأن من والاهم فقد كفر.
ثانيًا: موالاة خاصة، وهي موالاة الكفار لغرض
دنيوي، مع سلامة الاعتقاد، وعدم إضمار نية الكفر والردة، كما حصل من حاطب بن أبي
بلتعة في إفشاء سر رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزو مكة، كما هو مذكور
في سبب نزول سورة الممتحنة، ومثل كلام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في تقسيم
الموالاة إلى مطلقة وخاصة، كلام القرطبي، وابن العربي، وسليمان بن عبد الله بن عبد
الوهاب، والشيخ حمد بن علي بن عتيق، وعلى قول هؤلاء جميعًا: أن الموالاة المطلقة
العامة مرادفة لمعنى التولي، وهي بهذا الوصف كفر وردة، ومنها ما هو دون ذلك
بمراتب، ولكل ذنب حظه، وقسطه من الوعيد والذم، بحسب نية الفاعل وقصده.
وقال الرازي في تفسيره عند قوله تعالى: لَا
يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران: 28]، قال:
اعلم أن كون المؤمن مواليًا للكافر يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون راضيًا بكفره ويتولاه لأجله، وهذا
ممنوع منه؛ لأن كل من فعل ذلك كان مصوبًا له في ذلك الدين، وتصويب الكفر كفر،
والرضا بالكفر كفر، فيستحيل أن يبقى مؤمنًا مع كونه بهذه الصفة....
وثانيها: المعاشرة الجميلة في الدنيا، بحسب
الظاهر، وذلك غير ممنوع منه.
والقسم الثالث: وهو كالمتوسط بين القسمين
الأولين، هو أن موالاة الكفار بمعنى الركون إليهم، والمعونة، والمظاهرة، والنصرة،
إما بسبب القرابة، أو بسبب المحبة، مع اعتقاد أن دينه باطل، فهذا لا يوجب الكفر
إلا أنه منهي عنه؛ لأن الموالاة بهذا المعنى قد تجره إلى استحسان طريقته والرضا
بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام، فلا جرم هدد الله تعالى فيه فقال: ومن يفعل ذلك
فليس من الله في شيء.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الآية
النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين، فأما إذا تولوهم
وتولوا المؤمنين معهم، فذلك ليس بمنهي عنه، وأيضًا فقوله: لا يتخذ المؤمنون
الكافرين أولياء ـ فيه زيادة مزية لأن الرجل قد يوالي غيره ولا يتخذه
مواليًا، فالنهي عن اتخاذه مواليًا لا يوجب النهي عن أصل مولاته، قلنا: هذان
الاحتمالان وإن قاما في الآية، إلا أن سائر الآيات الدالة على أنه لا تجوز
موالاتهم، دلت على سقوط هذين الاحتمالين.
Reacties
Een reactie posten